الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن
.تفسير الآيات (5- 10): {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)}.التفسير:قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} هو عرض لبعض مظاهر قدرة اللّه سبحانه، والتي ذكرت الآيات السابقة بعضا منها.فالشمس والقمر آيتان من آيات اللّه الدالّة على قدرته، وعلمه، وحكمته.وآثارهما في عالمنا الأرضى واضحة مشهودة.. عليهما تقوم حياة كل كائن في هذا الكوكب الأرضى، وينتظم نظامه.. ولو أنهما أخذا من الأرض موضعا غير موضعهما، لاختلّ نظام هذا الكوكب، وفسد أمره، وتحول إلى صورة أخرى غير صورته تلك.. لا يدرى أحد ماهيتها التي تكون عليها.وفى قوله تعالى: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً} إشارتان:أولاهما: أن الجعل غير الخلق.. إذ هو تدبير بعد تدبير الخلق.. فالخلق إيجاد لما هو غير موجود، والجعل تقدير وتنظيم لهذا المخلوق الذي خلق، وإقامته على الوجه الذي يحقق الحكمة من خلقه.والخلق بالإضافة إلى اللّه- سبحانه- خلق متلبس بالحكمة، قائم على التقدير.. فليس هناك انفصال بين خلق اللّه، وبين الحكمة والتقدير لما خلق.ولكن التعبير بالجعل الذي يكشف عن حكمة الخالق المودعة في المخلوق، هو إلفات لأنظارنا إلى ما في هذا المخلوق من آثار رحمة اللّه وحكمته.. ومن جهة أخرى، فإن التعبير بالجعل لا يكشف عن الحكمة من خلق المخلوق إلا من الجانب الذي يتّصل بنا، ويؤثر في وجودنا.. ففيما كشف عنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ}.عرض مقصور على ما يتصل بنا من خلق الشمس والقمر، أمّا مالهما من شأن أو شئون تتصل بالعوالم الأخرى، وبالكون ونظامه، فذلك ما ليس لنا علم به، وإن وقع لنا به علم، فهو علم يزيد في معارفنا، ولا يتصل اتصالا مباشرا بمقومات حياتنا القائمة على ما تعطينا الشمس من ضوئها، والقمر من نوره.وثانية هاتين الإشارتين: ما في اختلاف التعبير عن ضوء الشمس بالضياء ونور القمر بالنور هكذا: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً}.وذلك أن الضوء نور ذاتىّ، ينبعث من جسم مشعّ له، بفعل الحرارة النّاريّة المتوقّدة في هذا الجسد.. ومن هنا كان الضوء مشتملا على حرارة، دائما.. فلا ضوء إلّا عن حرارة متوقدة، ولا حرارة إلا ومعها ضوء.وهذا هو السرّ في ندائه صلى اللّه عليه وسلم لجماعة كانت توقد نارا بقوله لهم:«يا أهل الضوء» ولم يقل لهم: يا أهل النّار تحاشيا لهذه الكلمة التي ربما انصرفت إلى نار جهنم فمسّهم منها وعيد، أو وقع لهم منها تطيّر وتشاؤم.فعليك صلوات اللّه وسلامه يا رسول اللّه.. ما أعظم خلقك، وما أروع أدبك.. وكيف لا يعظم خلقك وقد سوّاك ربّك في أحسن تقويم، وحلّاك بكل كمال وجمال، فقال سبحانه فيك: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقلت أنت في مقام التحدّث بنعمة اللّه وقد رأيت ما خلع اللّه عليك من كمال وجمال: «أدّبنى ربّى فأحسن تأديبى» ذاكرا فضل ربك، شاكرا نعماءه؟.والضوء والنار.. بمعنى واحد.وضوء الشمس.. ضوء ذاتى، صادر من جسم نارى ملتهب.أما نور القمر فهو غير ذاتىّ، لأنه صادر من جسم بارد معتم، وقع عليه ضوء الشمس، فانعكس منه على الأرض، هذا النور، الذي لا يحمل شيئا من حرارة الضوء.والضوء يحمل مع النّور حرارة.. والنور، نور خالص، لا حرارة فيه.الضوء متوهّج، متّقد، متماوج، مضطرب.. والنور لطيف، هادئ، رقيق وديع.. وهذا هو بعض السرّ في التعبير بالنور عن لطف اللّه، وسريان حكمته، في هذا الوجود، وإلباس رحمة اللّه إياه، في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.فهو لطف ورحمة وحكمة، لا يخالطه شيء- مما يصحب الضوء، من حرارة، وتوقّد، واضطراب!!- وفى قوله تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ} إشارة إلى القمر، واختلاف منازله ومطالعه، على مدى أيام الشهر القمري.وفى قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} إلفات إلى بعض ما لهذا النظام الشمسىّ والقمري من أثر، في ضبط الزمن، وحسابه، وتقدير أيامه، ولياليه، وشهوره، وسنيه.وليس يبطل هذا الأثر أبدا بما وقع لأيدينا من مقاييس وموازين للزمن، إذ كل هذه الموازين وتلك المقاييس مرتبط بالشمس- خاصة- ومتصل بتعاقب الليل والنهار بين يديها، وبتقلب الفصول على مدار السنة حولها.. ولو تغيّر هذا النظام لاختلّ كل ميزان، وكل مقياس للزمن.وفى قوله سبحانه: {ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ}.إشارة إلى أن هذا الخلق الذي خلقه اللّه، لم يخلق عبثا، وإنما هو خلق قائم على حكمة وتقدير.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ} [16: الأنبياء] ويقول سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ} [115: المؤمنون] فهذا الوجود الذي أبدعه اللّه سبحانه وتعالى على غير مثال سبق، هو- من غير شك- المرآة التي تتجلّى فيها قدرة اللّه، وعلمه وحكمته.وهو- من غير شكّ أيضا- منزّل عند اللّه تعالى في مقام الحبّ والإعزاز، إذ كان من آثار قدرته، وعلمه، وحكمته.. فإن ما تبدع يد الحكمة والعلم والقدرة لا يكون هملا، ولا يذهب مذهب الضّياع.هكذا شأن كل ذى صنعة مع ما صنع.. هو ضنين به، حريص عليه.فكيف بالصّانع الأعظم، وكيف بأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين.اللّه رب العالمين..؟فهذا الحقّ الذي خلقت به السموات والأرض، هو الذي يمسك بهذا الوجود، ويسرى في عوالمه، ويشتمل على كل ذرّة من ذرّاته.فبالحق خلق كل مخلوق، وبالحق قام كل موجود.وفى قوله تعالى: {يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إشارة إلى أن العلم هو المفتاح الذي يفتح مغالق هذا الكون، ويكشف معالم الوجود، وأسراره.. وأن من لم يحصّل العلم والمعرفة، فلن يكون له حظّ من النظر إلى هذا السكون، ولن يمسك بسرّ من أسراره، ولن يتعرف على آية من آياته.وقوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} يشير إلى أن التقوى لا تقوم في كيان إنسان إلا ومعها العلم.ذلك أنه إذا نظر الناظر إلى هذا الوجود بعين العالم، وبأجهزة العلم، رأى في اختلاف الليل والنّهار، وفى تعاقبهما لمحة مشرقة من لمحات حكمة اللّه، وقدرته وعلمه.. ففى هذا الاختلاف بين اللّيل والنهار ضمان وثيق لكفالة الحياة للكائنات على هذا الكوكب الأرضى.. فما كانت لتطيب الحياة أبدا، بل ولا تقوم الحياة بحال، للمخلوقات- وخاصة الإنسان- لو أن الزمن كان نهارا دائما، أو ليلا مستمرّا.. وفى هذا يقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [71- 73: القصص] وليست هذه هي معطيات النظر في اختلاف الليل والنهار، بل هي معطياته في كل نظرة ينظر بها إلى كل ما خلق اللّه في السموات والأرض.. من الهباءة والذّرة، إلى الشموس والكواكب.. ففى كل ما خلق اللّه، لمسات من حكمته، وأقباس من علمه، ونفحات من رحمته، وآثار من قدرته.والنّظر المتفحّص الذكىّ، هو الذي يكشف عن وجود اللّه، ويحدّث عن جلاله، وعظمته، وتفرّده بالخلق والأمر.. ومن هنا ينبعث الإيمان باللّه، ويقوم الولاء له، وتتحقق التقوى للمتقين من عباده.. إن في ذلك {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}.فلا تقوى لمن لا يعرف اللّه، ولا يعرف اللّه، من لا علم له بما أبدع الخالق وصوّر، وبما في هذا الإبداع والتصوير من علم العليم وحكمة الحكيم، وقدرة القدير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ}.فعلى قدر ما يعلم الإنسان من صفات الخالق بقدر ما يكون إيمانه به، وخشيته له، واتقاؤه لمحارمه! قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} هو وعيد لأولئك الّذين لا يتدبّرون في ملكوت اللّه، ولا يتفكرون في خلق السموات والأرض- فلقد أهملوا استعمال ملكاتهم التي أودعها اللّه سبحانه وتعالى فيهم، وشغلوا بأنفسهم، وألهتهم الحياة الدنيا عن أن يرفعوا أبصارهم إلى أبعد مما تصل إليه أيديهم، من مطلوب شهواتهم البهيمية، ولذاتهم الجسدية، فغفلوا عن آيات اللّه، وعموا عن النظر إلى ملكوت اللّه، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها.. وإنه ليس لهؤلاء اللاهين الغافلين إلا النار، لأنهم لم يكسبوا في حياتهم الدنيا إلّا ما هو من النّار وإلى النار.وفى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ} بالعطف على قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا} إشارة إلى أن هذا الذي أوقع هؤلاء الضالين فيما هم فيه، من عدم توقعهم للقاء اللّه، والحياة الآخرة، حتى رضوا بالحياة الدنيا، وأعطوها كل وجودهم، واطمأنوا إلى السّكن إليها- إنما كان ذلك لأنهم غفلوا عن النظر في آيات اللّه، والتفكر في ملكوت السّموات والأرض.. ولو أنهم نظروا وتدبروا لكانوا على غير ما هم عليه، ولآمنوا باللّه، ولأيقنوا بلقائه، ولعملوا لهذا اللقاء، واستعدّوا له، فذلك هو شأن {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ} [191: آل عمران] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} هو عرض للوجه المقابل للذين عموا عن النظر في ملكوت السموات، والأرض، فلم يؤمنوا باللّه، ولم يرجوا لقاءه.. وهو وجه الذين آمنوا باللّه، إذ أكرمهم اللّه سبحانه وتعالى..، فهداهم بالإيمان إلى الأعمال الصالحة وإلى تقوى اللّه، والإعداد ليوم لقائه. فكان أن جزاهم ربّهم بما عملوا، جنات تجرى من تحتها الأنهار، ينعمون فيها بما يفضل اللّه عليهم به، من رزق كريم.فيسبّحون بجلال اللّه وعظمته، وما شهدوا من روعة ملكه، ويحمدون له أن وفقهم إلى الإيمان، وهداهم إلى العمل الصالح الذي أرضاه، فرضى عنهم وأدخلهم جناته، وأذاقهم هذا النعيم الذي يتقلبون فيه.هكذا يعيشون ألسنة تسبح اللّه، وتحمد له، ويتبادلون السّلام والمودة والمسرّة فيما بينهم: {إخوانا على سرر متقابلين}.وكما استفتحوا مجالسهم بحمد اللّه وتنزيهه، يختمونها بالتنزيه والحمد للّه ربّ العالمين..تفسير الآيات (11- 14): {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}.التفسير:قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.الطغيان: مجاوزة الحدّ في الشر، وبلوغ الغاية في العدوان والبغي.. ومنه الطاغية، والطاغوت.ويعمهون: من العمه، والعمه: ما يصيب البصيرة من عمى فلا تهتدى إلى طريق الحق والخير أبدا.والآية الكريمة تشير إلى موقف المشركين من النبيّ الكريم، وأنهم في إمعانهم في تكذيبه وتحدّيه، كانوا يسألون اللّه أن ينزل عليهم مهلكات من السماء، إن لم يكن ما جاءهم به محمد هو الحق من عند اللّه، وذلك ليكون مقطع الفصل فيما بينهم وبينه.. فإن يكن ما يقوله الحقّ أهلكهم اللّه، وأخذهم بدعائهم، وإن لم يكن حقّا لم يصبهم شيء، وافتضح أمره فيهم.. هكذا سوّلت للمشركين أنفسهم، وهكذا أعماهم ضلالهم، حتى طلبوا لأنفسهم البلاء، وتمنّوا العذاب.. ولو كانوا على شيء من العقل والحكمة لكان لهم في مجال التمنيات ما هو أسلم وأحسن، ولقالوا مثلا: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا إليه.. ولكنها الجهالة والعمى والضلال.. «ومن يضلل اللّه فلا هادى له».قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ}.المراد بالناس هنا مشركو قريش، الذين طلبوا إلى اللّه أن يعجل لهم العذاب، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى عنهم في آية أخرى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ} [53- 54: العنكبوت] واللّه سبحانه وتعالى لا يأخذهم بالعذاب، والنبىّ صلى اللّه عليه وسلم فيهم، وفى قوله تعالى: {اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى يعجّل لهم الخير، ولا يعجّل لهم العذاب، بل يؤخره عنهم لتتاح لهم الفرصة لمراجعة أنفسهم، والاستقامة على طريق الإيمان.. فمن آمن منهم فقد أمن من العذاب في الدنيا والآخرة، ومن استمسك بكفره وضلاله، فله خزى في الدنيا وله في الآخرة عذاب عظيم.. والتقدير. ولو يعجّل اللّه للناس الشرّ كما يعجل لهم ما يعجّل من خير، لهلكوا، ولأخذهم البلاء، دون أن تتاح لهم فرصة لمراجعة أنفسهم، وتصحيح لوضعهم المقلوب، الذي اتخذوه من دعوة الحق التي يدعون إليها.وفى قوله تعالى: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى لو عجّل لهم الشرّ الذي يتمنونه لأهلكهم جميعا في لحظة خاطفة.. ولكنه سبحانه يؤخرهم لأجل معدود، ولا يأخذهم بعاجل ما يستحقون من عقاب، إكراما للنبىّ الكريم، ولمقامه فيهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [58: الكهف].وفى قوله سبحانه: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.إشارة إلى المحذوف، الذي دل عليه العطف بالفاء.. والتقدير.. ولو يعجّل اللّه للناس الشرّ استعجالهم بالخير، لقضى إليهم أجلهم.. ولكنا نمدّ لهم، فنذر الذين لا يرجون لقاءنا منهم في طغيانهم يتخبطون، في بحر متلاطم الأمواج.وهذه الآية غير مقيدة بأسباب نزولها، بل هي مطلقة، حيث يقع تحت حكمها الناس جميعا.. فقد كان من رحمة اللّه بالنّاس أن أمهلهم، فلم يعجّل لهم العقاب الذي يستحقونه بما فعلت أيديهم.. وذلك أنه- سبحانه- لو آخذ كل إنسان بذنبه عاجلا لقضى إليه أجله بعد كلّ ذنب يقع منه، ولكان الناس جميعا في معرض الهلاك، إذ لا يسلم إنسان من أن يواقع معصية، أو يرتكب ذنبا.. وهذا من شأنه ألّا يدع لإنسان فرصة ليكفّر عن خطيئته، ويستغفر لذنبه، ويرجع إلى ربّه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً} [45: فاطر].وإذن فهذه نعمة من نعم اللّه على الناس، ورحمة من اللّه بهم أن لم يعجّل لهم الشّرّ، وهو أخذهم بذنوبهم من غير إمهال.. وهذا من شأنه أن يكون داعية لأن يعيد الإنسان النظر إلى نفسه، وأن يصلح ما أفسد، وأن يتصالح مع ربّه فيما ارتكب من إثم، فتلك فرصة ينبغى ألا يفوته انتهازها، وهو في عافية من أمره، وفى فسحة من أجله.والتعبير عن التعجيل بالعقوبة، وتنفيذ حكم اللّه في المذنب بإهلاكه- والتعبير عن هذا بالشرّ، إنما هو بالإضافة إلى الإنسان الذي يقع عليه هذا الحكم، فهو شر بالنسبة له، إذ يحول بينه وبين أن يجد الفرصة التي يصحح فيها موقفه، ويرجع إلى ربه.قوله تعالى: {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} في هذه الآية يكشف اللّه سبحانه وتعالى عن ضلال الإنسان، وكفره بنعم اللّه، وجحوده لأفضاله عليه، وإحسانه إليه.فالإنسان- مطلق الإنسان- هو كما وصفه اللّه سبحانه، في قوله عزّ من قائل: {إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ} [19- 23: المعارج] وقوله سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى} [6- 7: العلق] فالإنسان في كيانه، هو واه ضعيف.. لأنه خلق من ضعف، كما يقول سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [54: الروم].. وكما يقول جلّ شأنه: {وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً} [28: النساء].. ولكنه حين تلبسه القوة، ينسى ضعفه، ويستولى عليه الغرور، ويستبدّ به العجب والخيلاء، فإذا هو مارد جبار، وسفيه أحمق، وطائس نزق.. يحارب ربّه، ويكفر بخالقه، ويستعبد الناس، أو يتعبّد هو للناس، ولا يتعبد لربّ العالمين!- وفى قوله تعالى: {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً}.نجد التعبير بالمسّ هنا مفصحا عن مدى ضعف هذا الإنسان وخوره.وأن مجرّد مسّ الشرّ له، يكر به ويزعجه، ويفسد عليه حياته.. وإذا هو صاخ إلى اللّه، ضارع بين يديه.. يدعو في كل حال يكون عليه: لجنبه، أو قاعدا، أو قائما.. فهو من لهفته وانحلال عزيمته، يدعو بكل لسان، ويستصرخ بكل جارحة.وفى قوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ}.نجد أن هذا الإنسان الصارخ الضارع المستسلم المستكين، حين يرفع اللّه عنه البلوى، ويكشف ما به من ضر، يمكر بفضل اللّه عليه، وينسى رحمته به.ويمضى فيما كان فيه من كفر وضلال.. كأن ضرّا لم يكن قد مسّه، وكأن حالا من الذّلة والاستكانة لم تكن قد لبسته، وكأن رحمة السماء لم تمدّ يدها إليه وتستنقذه من الهلاك المطبق عليه!! هكذا الإنسان، كما وصفه خالقه في قوله تعالى: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً} [83: الإسراء] وفى قوله سبحانه: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [34: إبراهيم]- وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.تهديد ووعيد لأهل الكفر والضلال، الذين لا يرعوون عن كفرهم، ولا ينزعون عن ضلالهم، ولا يستمعون لدعوة خير، ولا يستجيبون لرائد هدى، ورسول رحمة، لا يتعظون بما يحلّ بهم من غير، وما يلبسهم من نعم! لقد استمرءوا هذا الضلال الذي هم فيه واستحبوا العمى على الهدى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً}.وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} هو تهديد أيضا ووعيد للكافرين والضالين، الذين وقفوا من الدعوة النبوية هذا الموقف المتصدّى لها، أو الحائد عنها.فلقد أخذ اللّه المكذبين الضالين من الأمم قبلهم بالبأساء والضرّاء حين عتوا عن رسل ربّهم، وكذّبوا بهم.. وذلك هو الجزاء الذي يجزى به الظالمون.. لا جزاء لهم غير أن يؤخذوا بنقم اللّه ويلقوا في جهنّم خالدين فيها.وها أنتم أولاء، أيها المشركون، قد خلفتم هؤلاء الأقوام، وورثتم ديارهم، وسكنتم في مساكنهم.. وقد جاءكم رسول كريم من عند اللّه، وقد عرفتم عاقبة الظالمين المكذبين برسل اللّه.. فماذا يكون منكم مع رسولكم هذا؟ إن اللّه سبحانه لا تخفى عليه خافية.. إنه يرى ما تعملون، وسيجازيكم على أعمالكم ويأخذكم بها.. وقوله تعالى: {وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} جملة حالية تكشف عن واقع القوم الذين ظلموا، وأنهم قد ظلموا وكفروا في حال كان رسل اللّه فيها بينهم، يدعونهم إلى الإيمان، ويدلّونهم على الهدى.وقوله تعالى: {وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا} جملة حالية كذلك، وصاحب الحال هو ضمير الذين ظلموا في قوله تعالى: {وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ}.وهذه الحال تكشف عما في قلوب الضالين من زيغ وضلال، وأنهم ما كانوا ليؤمنوا قبل مجيء الرسل إليهم بالبينات أو بعد مجيئهم.. ولكن اللّه سبحانه أرسل رسله إليهم، ليقيم الحجة عليهم، وليقع بهم عذابه، بعد أن تأتيهم آياته على يد رسله، كما يقول سبحانه: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [15: الإسراء].
|